Tuesday 8 January 2013

ما المحاضرة؟





     الكاتب 


في المحاضرة (على وزن مفاعلة، مثل المنادمة والمسامرة) الحضورُ، حضورُ المحاضر لدى الجمهور، وحضور الجمهور لدى المحاضر، وحضور الجمهور بعضُه لبعض. فيها حضورُ الأشخاص المادي والذهني، ورهبةُ الأمكنة، وهَيبةُ المقامات. فيها الساحةُ العامة، والمساواةُ بين الوافدين، واستقلالُ البحث، وشيء من روح سقراط في  الجدل والحوار واختزان الذات للمعرفة. ويكاد يكون الشعار: "عرّف نفسَك بنفسك".  
وفي المحاضرة أولويةُ المشافهة والإصغاء، نبرة صوت المتكلم وما فيها مما يحيي المعنى ويميته، وضرورة شدّ الانتباه لأن ما فات لا يُعوض ولا يستعاد. كأننا ما قبل الكتاب أو ما بعده أو في ما يتعدّاه.
وفي المحاضرة اختزالُ الزمانِ، وفيها للسامعِ التبحرُ في مسألةٍ من المسائل في وقتٍ وجيزٍ والخضوعُ لميعاد معين فُرض عليه، فألزمه وحرّره من الأهواء والمشاغل والتشتت بينهما. وفيها للمتكلم ضرورةُ تنظيم الأفكار وتبويبها لعرضها كاملة ومترابطة  في وقت ضيّق، وضرورةُ الجمع بين المجرد والملموس، والحاجة إلى روح الفكاهة في سياق الجدّ، ومغالبةُ المفاهيم الجافة بالحركةِ المفعمةِ حياةً، وبالنسقِ الجمالي يقود إلى نمنمةٍ في الزمان.


          لكن للمحاضرةِ أيضاً أوجهُ تشابهٍ بمؤسسات أخرى.

          تشاركُ المسرحَ في ما يُرى وما لا يُرى. فوراء الخشبةِ الكواليسُ، والهيئة المنظمة التي اختارت المواضيع والمتكلمين وادرجتهم في حلقات وسياقات، وقادت مفاوضات، وسعت إلى غايات ومرامٍ فجاءت "التمثيليات" تارة في اطار الأدب الملتزم الساعي إلى بناء الدولة أو تفكيكها، وطوراً في اطار الأمسية الشعرية والفن للفن. وكانت المواجهات في الحقول العامة حيناً، وفي ميادين وحقول ضيّقة أحيانا. وأمام المسرحِ الجمهورُ بتراتبه وأرائه وأحكامه


.انتونان ارتو صاحب نظرية خاصة في المسرح وصاحب إحدى أشهر المحاضرات في الثقافة الفرنسية في مسرح الفيو كولومبية في 13/1/1947. رسم إرنست بينيون إرنست.


            تقاربُ المحاكمة أحيانا مستنطقةً اصحابَ المواقع والأبحاث، ملزمةً إياهم عرض ما يملكون من تصورات ومعلومات، فارضة عليهم بلورة ما يقومون به وتقييمه اعلاناً. وفي ظهور الأفكار على الملأdans un espace public  سمةُ الأنوار Aufklärung   الأولى. وفي حوار أفلاطون  دفاع سقراط عن نفسه أمام هيئة محاكمته المؤلفة من خمسماية مواطن، نجد نصّاً من النصوص المؤسّسة للفلسفة وللحضارة الغربية.



سقراط 



          أخيراً تلامسُ المحاضرةُ التعليمَ، وهي أصلاً أسلوبُه المعتمد والمفضّل داخل الحرمِ الجامعيّ. وفي ثنائية المعلمِ والمتعلمِ ميراثُ أكاديميّة أفلاطون، أولى جامعات الكون، و لوقيون رِسطاليس كما سمّاه المتنبّي:
        مَن مخبرُ الأعرابِ أنّي بعدها     جالستُ رسطاليس والإسكندرا
وإذا كانتِ المشافهةُ تغلبُ على المحاضرةِ، فالنصُّ المكتوبُ حاضرٌ في الإعداد لها، وفي إلقائها، وفي نشرها بعد ذلك. والأمرُ لا يمسّ  جوهرَها، بل يزيدها وقعا أو ينقذها إذا سقطت في مطالعةٍ رتيبةٍ.             

              قد تهدّد الاجتماعياتُ وحفلةُ الشاي المحاضرةَ. لكن الإتصالات الحديثة قد تجعل منها أداة التواصل الفكري الأولى في العالم متيحةً لها فرصاً لم تحظَ بها يوماً.




No comments: