Saturday 9 March 2013

مـا الفلـسـفـة ؟











يتطلب الدخول إلى تاريخ الفلسفة[1] معرفة ما إليه ندخل لتعيين نوعه وبدايته وأهم محطاته . لذا نبدأ كلامنا بتعريف الفلسفة .

1- العبـارة
        الفلسفة عبارة يونانية مشتقة من عبارتين : "فيليا " وتعني المحبة أو الصداقة ، و"سوفوس" وتعني "الحكمة". كانت عبارة "سوفوس" تعني ، في ملاحم هوميروس العائدة الى أواسط القرن الثامن قبل الميلاد، تفوقا يقوم على مهارة حرفية . لكنها، في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد اللذيّـن شهدا ولادة الفلسفة، أصبحت تعني تفوقاً يقوم على معرفة عامة. وكان الفلاسفة الاول يفخرون بامتلاك المعرفة الكلية التي تميزهم عن سائر الناس ذوي المعارف الجزئية . يـبدأ ديموقريطس، على سبيل المثال، أحد مؤلفاته بالعبارة الآتية : "سأبحث في المواضيع كلها ".
        أول من استخدم عبارة "الفلسفة" هو فيثاغورس (570-490 ق.م) في ردّه على أحد الطغاة بالقول : "أنا مُحبّ للحكمة (فيلوصوفيا)، اللـه وحده حكيم".  وتظهر هذه العبارة حاجة الفلاسفة الأول للدفاع عن أنفسهم ضد تهمة الـعتوّ [2] Hubris  التي رماهم بها رجالُ الدين: فالفيلسوف الذي يدّعي بلوغ الحقّ بوسائله الخاصة ينسب لنفسه صفات الألوهة ومن ثمّ يستكبر ويستوجب الإدانـة. حارب المجتمع اليوناني كلاً من أناكساغوراس[3] (لقوله ان القمرَ حجرٌ وليس إلهاً وأرسطو[4] وحكم على سقراط بالإعدام فتناول السمّ. صحيح أنه، في الحالين الاخيرين، كانت التهم سياسية في باطنها، الا انها استخدمت في ظاهرها حججاً دينية (شتم الآلهة) .
        وما جعل الفلاسفة يـبقون على عبارة "الفلسفة" بعد ذلك، بدلا من عبارة "الحكمة" المعتمدة في حضارات الشرق، هو اعتبارهم أن "الفلسفة" منهجاً  اكثر منها مبادىء جامدة، أسئلة اكثر منها اجوبة، مساراً " أكثر منها نقطة وصول . ليست الفلسفة عدداً من المعارف والنظريات التي يمكن تلقنها او تلقينها، انما هي طريقة في استخراج الاسئلة من الموضوعات وبحثها بحثاً خالياً من العنف، هادئـاً، عاقلاً، قابلاً للنقاش ولإعادة النظر .
        هكذا يـبين لنا أن لعبارة "محبة الحكمة" وجهان : هي عتوّ واستكبار، من جهة، أي إرادة "البحث في المواضيع كلها " بوسائل العقل الانساني وحده، وهي قمة التواضع، من جهة ثانية، لأنها لا تدّعي امتلاك المعرفة، بل تفخر بالسعي سعياً دائماً وحثيثاً إليها .

2- الميزات

        الفلسفة ممارسة فكرية حرة، عقلية ، جذرية ، شاملة .

أ- بما هي ممارسة فكرية، الفلسفة إعمال أدوات على مواد أولية. وما المواد الأولية غير مواضيع الحياة الإنسانية والاجتماعية كلها، النظرية منها والعملية . ليست الفلسفة برجاً عاجياً خارج الحياة، بل هي تتغذى من مشاكل المجتمع (أكانت صراعات سياسية او معضلات علمية او مسائل أدبية او فنية ... الخ...) وتجعل من هذه المشاكل مواضيع بحثها ونقاط ارتكازها في بنائها الطموح. أما أدوات البحث، فهي أدوات العقل نفسه: المفهوم (أي الفكرة المتجسدة في عبارة) والحكم (أي ربط مفهومين) والقياس (أي ربط حكمين)... ومن معالجة الادوات للمواضيع يتم استخراج الاسئلة الفعلية والمحورية وتنحية الأسئلة المتداولة والسطحية .
        والقول ان الفلسفة فكرية في بعدها الأساسي لا يعني انها مستقلة استقلالا كلياً عن الاقتصاد. فالفيلسوف ، كما قيل ، "مرابي الحضارة"، لم يُتـَح له التفرغ للمسائل النظرية إلا بعد ان اجتازت المجتمعات مسافات تاريخية طويلة تسنّى لها بعدها تقسيم العمل، وتوزيع الافراد على المهن المتنوعة، وانصراف بعض أفراد المجتمع إلى البحث النظري الخالص دون الحاجة الى العمل اليدوي لتلبية  الحاجات المباشرة . والفيلسوف واستاذ الفلسفة وطالب الفلسفة في مجتمعاتنا المعاصرة هم من اصحاب المواقع الاجتماعية التي تُغْبن او يُعطاها حقها كماً وكيفاً ، مما يفتح لهم باب ولوج الاطار النقابي .
        والقول أنها فكرية لا يعني انها مستقلة كلياً عن السياسة وهي التي رأت، في بداية عصرها الذهبي، ومع افلاطون، أن موقع الفيلسوف الحقيقي هو الحكم، وهي التي رأت مؤخراً، مع ماركس، ان الظروف التاريخية باتت تسمح بتحقق الفلسفة وتحوّلها إلى عالم فعلي وذوبانها في ارض الواقع .
        كما أن القول إن الفلسفة ممارسة لا يعني استقلالها عن مؤسسة تؤطرها وتؤمن شروط انتاجها واستمرارية التقليد الفلسفي، اعني ما يطلق عليه، في مجتمعاتنا المعاصرة، اسم الجامعة . كان الفلاسفة ، من الوجهة التاريخية، روّاد تأسيس المعاهد العالية : فأكاديمية افلاطون ولوقيون ارسطو ... هما الجامعتان الاوليان بالمعنى الحديث، وكانـتا تعطيان "لطلابهما" ثقافة شاملة. وكبار الفلاسفة في التاريخ ، مع بعض الاستثناءات المهمة طبعاً ، كانوا أساتذة في الجامعات من كنط الى هايدغرو فيتغنشتاين مروراً بهيغل وبرغسون. كما أنه من الجدير بالملاحظة انه بين أهم المؤلفات الفلسفية في القرن العشرين عدد كبير من الأطروحات لنيل الشهادات الجامعية . يـبقى أن أهمية مذهب فلسفي ما هي في فحواها، في بنيتها الداخلية، في قدرتها على التفسير والتوحيد واستضافة الوجود والموجودات، لا في عراقة المؤسسة التي انتجت فيها.

ب- يقول هيغل : "أول شروط الفلسفة الإقدام في البحث عن الحقيقة والإيمان بقدرة الفكر".
        الحرية هي البعد الاول للفلسفة، وفي الحرية تجد "محبةُ الحكمة" أصولها وجذورها، وخارجها تفقد جوهرها ومبرر وجودها وتصبح ثرثرة كلامية جوفاء تقوم بوظيفة اجتماعية مطلوبة منها دعماً للسلطات القائمة، وما اكثرها في المجتمع.
        الحرية الفلسفية هي رفض الفكر الخضوع المسبق لمعطى ديني او رسالة سماوية تستمد شرعيتها من خارج العالم ومن خارج الانسان. وهي رفض الفكر التقيّد بأوامر السلطة السياسية القائمة سعياً الى ثوابها او خوفاً من عقابها. وهي عدم القبول بالافكار السائدة التي تجد في الكسل الفكري الحافز الأقوى للاستمرار في الهيمنة على العقول. وهي اخيراً عدم الركون لتراث فلسفي سابق بمجرد انه تراث فلسفي قائم على مقولة : "قال المعلم".
        ولا ريب أن أبرز مثال على تجذّر الفلسفة في الحرية هو ديكارت الذي انطلق، في بحثه الصارم والحثيث عن الحقيقة، من شك منهجي "مضخم"hyperbolique  يهدم كل معرفة لا تبدو له أكيدة وثابتة .
        ما سبق لا يدعونا الى اعتبار الحرية رفض مطلق لكل معطى، أو رفض غايته الرفض ("الرفض للرفض"). الحرية تغالب المبادىء السائدة لتأسيسها على قواعد ثابتة، او للطعن في زيفها والوصول الى ثوابت فعلية، عبر المرور بمرحلة الاسئلة الواضحة التي تجلو عناصر المفارقات واقطاب التناقض وتضعها الواحدة بازاء الاخرى. والفلسفة، في مسعاها، تعتمد على عناصر في مواجهة عناصر أخرى، فتلجأ الى التراث او اللغة أو القوى الصاعدة أو العلوم الجديدة ... موسعة اطار بحثها للوصول الى حوار كلي يعيّن لكل مسألة مكانها ويبـني للفلسفة مكانتها .

ج- ما يتجلى في الفلسفة ويتماهى معها، او يكاد، هو حرية العقل. تطلق الحرية عنان  العقل الذي بدورها يلجمها ويضع لها سنـناً وقواعد[5] .
        الحرية الفلسفية هي حرية العقل بما هو قدرة موضوعية كلية (اي واحدة عند الناس جميعاً) متعالية عن الغرائز والعواطف (المتباينة بين الناس) وعن المصالح (المتضاربة بين الافراد والفئات والدول). يتجاوز الانسان، بواسطة العقل، فرديته ويسعى الى تجاوز ملته وطبقته الاجتماعية لا بل أمته لمحاورة أفراد جنسه جميعاً بما هم عقلاء ، أي اصحاب عقول. يتعثّر المسعى احياناً لأن الانسان بجوهره حيوان اجتماعي ومن ثمّ تاريخي أي منـتمٍ الى فئة معينة ومجتمع معين وحقبة معينة . لكن العقل هو السبيل الوحيد الى الكلية وسط العثرات الكثيرة والمتعددة الوجوه .

        ليست هذه المقدمة المكان الصالح لتحديد العقل[6]، وتحديده اصلاً من مهمات الفلسفة المتجددة وليس من منطلقاتها المختومة. نكتفي هنا بالقول ان العقل هو القدرة الذهنية على الربط والتوحيد والتفسير والتأسيس .
        الربط : "العَقْل مشتق من العَقْل بمعنى الربط والإحكام كما قال بعض الحكماء"[7]... العقل يربط العناصر المختلفة رافضاً تعددها وتفردها موجداً بينها علاقات تتميّز بالإحكام أي بما يطلق عليه الفلاسفة اسم الضرورة. وعلاقات الضرورة غير علاقات الحدوث Contingence : فالتأكيد ، مثلاً ، "الجدار ابيض" يمكن ان يكون صحيحاً أو خاطئاً ، الا ان العلاقة بين الباب ولونه لا تدخل في باب الضرورة، بل تبقى في باب الحدوث. وهي ايضاً غير نتائج الاختيار : فالثياب التي ارتديها اليوم، مثلاً ، نتيجة اختيار حر . وكان يمكن لي ان اختار ارتداء ثياب اخرى. أما الحكم (1+1=2) فهو حكم ضروري بمعنى أن جمع الرقمين الاولين يقود بلا مناص الى النتيجة ويفرض نفسه على كل كائن عاقل. وهكذا يربط العقل بين الاشياء والمفاهيم ربطاً محكماً .
        التوحيد : أول مبادىء العقل مبدأ الهوية . ليس اسم "الهوية" عربياً في اصله "وانما اضطر اليه بعض المترجمين، فأشتق هذا الاسم من حرف الرباط، اعني الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره، وهو حرف (هو) في قولهم : زيد (هو) حيوان او انسان "[8] . ومبدأ الهوية هو المبدأ القائل أن الشيء هو الشيء (ب=ب) ، وصيغة هذا المبدأ السلبية هي : الشيء ليس غير الشيء (ب¹ج) ؛ الشيء الواحد لا يكون موجوداً ومعدوماً معاً .

        يكشف مبدأ الهوية منهج عمل العقل وبناه الاساسية :

        أ- رفض التناقض رفضاً كلياً لأنه سمة اللاعقل الفاضحة، والسعي الدؤوب الى بناء أنظمة فكرية متجانسة مترابطة متماسكة خالية من التناقض ومحكمة التنسيق. (ومبدأ عدم التناقض لا يحكم الحلم و الفن[9] ولا كل ما يصدر عن الخيال بعامة).
        ب- ثبـات المفاهيم ليتمكن العقل من قيادة براهينه بدقة وصرامة .
        ج- مغالبة العقل للتعدد (بما هو تحدٍ ، ولو غير متناقض، لمبدأ الهوية) ومحاولته بناء مبادىء وانظمة وقوانين عامة تؤطر التعدد وتدخله في باب الوحدات الأوسع وصولاً الى الوحدة التامة والكلية .

        التفسير : لا يقبل العقل بالظواهر كما تقدم نفسها اليه، بل يسعى دائماً الى تفسيرها عبر مبادىء عدة أهمها مبدأ العلية (او السببية) الذي يُراد به أن لكل ظاهرة علّة تحدثها وتقدم الحجج الكافية لوجودها .

        التأسيس بمعنى إيجاد أسس ثابتة وشارحة تقوم عليها المفاهيم والأشياء، وتنتظم فيها العلوم والمعارف. وما عملية التأسيس الا مجموع العمليات السابقة (الربط والتوحيد والتفسير) وقد اصبحت قواعد لعمارة المعرفة والعمل الشاملة بمجملها.

        وعقلانية الفلسفة تبدأ من نقطة انطلاقها لتشمل مسارها كله .
        الفلسفة عقلانية في نقطة انطلاقها لانها لا تقبل ، لجهة المبدأ، الا بما تستطيع ان تُرسيه على قواعد العقل. الفلسفة علمانية ترفض، بما هي فلسفة، معطى دينيا يستمد فحواه وشرعيته من رسالة إلهية تأخذ شكل النبوءة او اشكالاً مشابهة. فالاديان السماوية تَستمد من اللـه نفسه ، "خالق السماوات والارض"، معتقداتها وتوجيهاتها : فموسى نبي الله، والمسيح ابن الله ، والقرآن كتاب الله ... واتباع الاديان السماوية لا يقبلون مناقشة الكتب الإلهية او تعديلها، ويذهبون احياناً إلى رفض تفسيرها أو تأويلها أو هم ينيطون هذه المسألة بهيئات معينة لها وحدها صلاحية التفسير. فالكتب هذه هي القاعدة وصخرة الخلاص. اما الفلسفة فمستكبرة ومتواضعة في آن معاً كما سبق ان قلنا : لا تقبل معياراً غير العقل الإنساني، وتعرض ما يأتي به هذا العقل على النقاش .

        والفيلسوف إما يـبدأ من العدم ومن قدرة العقل وحده مثل ديكارت الذي شك بكل شيء للوصول الى المعرفة الثابتة، وإما يعتبر أن ثمة مؤسسات إنسانية لا يمكن التشكيك بها مثل اللغة والعلوم والاخلاق والفنون والسياسة ... وان المطلوب من الفلسفة اخراج اللباب من القشور وإرساء "المؤسسات" هذه على قواعد سليمة تبرر وجودها وتنظمه وتؤسس له .

        هل هذا يعني ان الفلسفة رافضة بالضرورة للدين في نتائجها ؟ إن وجود أنظمة فلسفية مهمة متآلفة مع اليهودية والمسيحية والإسلام كفيل وحده بالإجابة عن السؤال. ذلك ان الفلسفة تلتقي مع الدين في واحد من سبيلين:
        أ) يـبرهن العقل - إنما بوسائله وادواته الخاصة - عجزه عن بلوغ الحقيقة وعن رسم طريق الصلاح ، فيلجأ الى الوحي ك"منقذ من الضلال" ومخرج من "تهافت" العقل وعجزه : "إله ابراهيم، إله اسحاق، إله يعقوب، لا إله الفلاسفة والعلماء "، كما يقول باسكال في واحدة من خواطره.
        ب) يبيـن للفلسفة أن ما تدركه هي في بحثها الدؤوب هو بالذات ما أوحى به الله لرسله وانبيائه، وانه ليس من فرق، في النهاية ، بين العقل والنقل. لهذا السبيل بدوره رافدان :
 الأول يعتبر فيه العقلُ أن الدينَ يتخطاه ويتعدّى حدوده، ولو ترافقت طريقاهما الى حدّ من الحدود، أو نقطة من النقاط. (توما الإكويني)
الثاني يعتبر فيه العقلُ أن ما يقوله الدين هو ذاته ما تقوله الفلسفة، انما يقوله الدين بلغة العامة والخيال، لا بلغة المفهوم والحكم، مما يعطي للفلسفة رجحانـاً معنوياً على الديـن . (هيغل)

        والفلسفة عقلانية في مسارها تسعى الى تشييد عمارة متماسكة، مترابطة ، موحدة، خالية من التناقضات. النموذج هنا هو إسبينوزا الذي يلجأ ، في كتابه "إلاطيقا " (الاخلاق)، الى نحو رياضي استنباطي لعرض نظريته : تفصح أولى الصفحات عن المنطلقات، ومن يقبل هذه المنطلقات مجبر على قبول النظام الفلسفي بكامله لأن الكتاب بمجمله لا يعدو كونه استنتاجات عقلية انطلاقاً من المسلمات الأولى .
        لا تسعى الفلسفات الكبرى كلها الى بناء نظام كلي متماسك ومقفل له جماليته الخاصة وإتقان العمارات المادية وتكامل عناصرها وانسجامه، فطائفة منها (أي من هذه الفلسفات) تريد الحفاظ على طابعها التساؤلي غير المكتمل، لكن النظام الكامل هو في افق كل تفكير فلسفي، ويُنمّ بدوره عن مسلمة للفلسفة ، بما هي فلسفة ، هي مُسلّمة عقلانية الكون المضيفة لعقلانية الانسان والمهيّئة له .
        وعقلانية المسار هي ما يميز الفلسفة عن الفكر الصيني وعن الفكر الهندي . الحكمة الصينية والحكمة الهندية ، رغم الفروقات الكبيرة بينهما ورغم اختلاف المدارس في كل منهما، تجعلان الى "جوار" بعضها المبادىء المجردة والمعطيات الحسية دون ان تسعيا الى تشابكها وتداخلها.  تضع هاتان الحكمتان الواحد بمواجهة الآخر ما هو مجرد وما هو حسي، ما هو ذاتي وما هو موضوعي، ما هو داخلي وما هو خارجي، دون ايجاد مراحل "التوسط" بينهما، ودون تأمين وسائل الانتقال من الاول الى الثاني. في الفكر الهندي لدينا كتلتان، كما يقول هيغل في أمثولات عن تاريخ الفلسفة: من جهة، مبادىء مجردة (يرى فيها هيغل "لاوعياً" و"فراغاً " لأن الحدس فيها "لا يرى شيئاً " والعقل عنها لا يدرك شيئاً) : الواحد غير المجَسّد، الجوهر الابدي الهادىء والهائل الاتساع، التأمل الذاتي الذي لا يُعرف له نظير، اسم اللـه الصوفي (عبارة أاوم") المكرر الى ما لانهاية في الدعاء ...؛ ومن جهة ثانية ، قَدَرٌ كبير من التفاصيل "التافهة " ومن الشعائر "الغريـبة " ومن التعدادات اللامتناهية وتقنيات ضبط الجسد والتنفس وسائرالحواس ...

        يبقى أخيراً ان نمـيّـز بين الفلسفة والخرافة . تواكب الخرافة وجود المجتمعات البشرية، وتتميز عن الاساطير بإيمان ابناء المجتمع بها واعتبارهم إياها تعبيراً صادقاً عن وقائع صحيحة . والخرافات نوع من القصص يقوم ببطولته الآلهة والكائنات الخيالية والبشر والحيوانات ويروي ولادة العالم وظهور الانسان وحلول النظام محل الفوضى وصراع قوى الخير والشر وظروف ولادة المرض والموت ... بدت الخرافات لجيل أول من علماء الاناسة anthropologie  محاولات جنينية وغير متماسكة وغامضة لتفسير العالم. لكن جيلاً آخر من علماء الإناسة، وفي طليعتهم المدرسة البنيوية والعالم الفرنسي كلود ليفي-ستروس[10]، أظهر البينة العقلانية الاساسية للخرافة :
1- للخرافة بنية منطقية ولا يختلف "الفكر البري" (La pensée sauvage) عن فكرنا في أساليب عمله واستنتاجه .
2- الخرافة هي المكان الأمثل لبناء التصنيفات والتبويـبات : رجل- امرأة ؛ أرض -سماء ؛ طبيعة - مجتمع ؛ نحن-الاخرون.. وتساهم هذه التصنيفات في تنظيم الافكار والعلاقات بين ابناء المجتمع .
3- يدرك المجتمع بواسطة الخرافة بعض التناقضات الموجودة فيه وتقدم الخرافة نمـطاً منطقياً لحلها . على سبيل المثال، خرافة أوديـبوس طورانوس[11]وديبوس الملك). يعني اسم أوديبوس "الرِجل المضخمة" وتبدأ الخرافة بقتل السفنكس (كائن مولود من الأرض له جسم أسد وأجنحة طير ورأس امرأة وصدرها). يقتل اوديبوس أباه ويتزوج أمه . وهكذا   فالتشديد على العلاقة بالارض (الرِجل المضخمة) هو بالنسبة للتفريط بها (قتل الكائنات "الأرضية"[12] Chtoniens) مثل التشديد على احدى علاقات القربى (الزواج بالام) بالنسبة لبخس العلاقات الأخرى حقها (قتل الاب).
        السؤال هو اذاً : لما كانت بنية الخرافة عقلانية وموضوعها الكون والحياة والانسان، فما الفرق بينها وبين الفلسفة ؟ أوليست الخرافة فلسفية والفلسفة خرافية ؟ يرى بعض الفلاسفة في الخرافات مصدراً من مصادر الفلسفة عليها تأويله (فلسفة التأويل أو Herméneutique) . لكن البون شاسع بين الفلسفة والخرافة. وتخوض الفلسفة معركة دائمة للتمايز عن الخرافة والخروج منها ولو باستخدامها :
1- العناصر الأولى للخرافة (أبطال، كائنات اسطورية، مفاهيم مشبعة بالسحر...) غير  العناصر الاولى للفلسفة (المفهوم ، الحكم ...) ولو كانت بعض اساليب الاستنتاج  والعمارة الفكرية واحدة في الميدانين .
2- تطرح الفلسفة بوضوح الاسئلة التي تحاول الاجابة عنها، فيما أسئلة الخرافة دفينة فيها   وإن كانت قابلة للاستخراج على يد العلماء والفلاسفة .
3- المسائل الفلسفية قابلة للنقاش العلني أفقياً (بين أفراد المجتمع)  وعمودياً (عبر التاريخ) ، ومن ثم للبلورة ، واعادة النظر بها، وتأسيسها على قواعد جديدة في ظل غلبة الحجة العقلية وإرادة العقل جلاء الأمور وسبر غورها. أما تطور الخرافات، فضوابطه مختلفة وإن لم يكف العقل عبره عن العمل .
4- تعمل الفلسفة، عبر علم المنطق ونظرية المعرفة وغيرهما ، على جلاء اساليب عمل العقل الصورية العامة فيها وفي الخرافة والممارسات الإنسانية الاخرى . وارتداد العقل على نفسه لمعرفة نفسه بنفسه هو بلا أدنى ريب ما يميـز الفلسفة .

        د- الفلسفة جذريـة لأنها، في سعيها الى الوصول لجذور المسائل، لا تتوقف عند معطى ديني غير قابل للمساءلة (الكتب المقدسة)، ولا عند مسلمة علمية ينطلق منها احد العلوم لضرورات بحثه دون امعان النظر بها. تضع الفلسفة المعطيات كلها موضع التساؤل، كاشفة ما وراء الأجوبة "الأكيدة" والأسئلة المطروحة من "ثوابت" لم يتح بعد -للاسئلة والاجوبة - جلاؤها .
        1- الفلسفة "جدلية صاعدة " كما عرّفها افلاطون، اذ انها تنطلق من المسلمات الى المبادىء ، على نقيض العلوم المنطلقة من المسلمات الى النتائج .
        2- تحاول الفلسفة دائماً الوصول الى المبادىء والعلل الأولى، والمنطلقات التي ما بعدها منطلقات، والبديهيات الاصلية المغطاة بالاراء المسبقة والعادات الفكرية . لذا يجد العقل نفسه، في خلاصة البحث الفلسفي، على حدود ذاته وعلى حدود العبارة .
        3- الفلسفة عملية تفكيك Déconstruction  دائمة للعمارات الفكرية كلها، الخرافية والعلمية والفلسفية، لتبيان ما لم يظهر بعد، وكشف الافتراضات الخفية المعتمدة والمقبولة دون نقاش يؤسس لها .
        4- الفلسفة تسعى الى تحويل الاشياء كلها الى لغة العقل الواحدة والموحّدة والشفافة، دون ان ينقطع العقل عن الأشياء وما فيها من ابعاد خاصة وكثافة ذاتية، ودون أن ينطوي على نفسه فاقداً تواصله مع الوجود والكلية والكينونة الحقة .

        هـ- الفلسفة شاملة لا تبقي ميدانا من الميادين خارج اطار بحثها، مما يعني أن كل مسألة من المسائل قابلة للتحوّل الى موضوع فلسفي : "مركز الفلسفة في كل مكان ودائرتها في لا مكان"، كما يقول الفيلسوف المعاصر موريس مرلو-بونتي[13]. والفلسفة تسعى الى إقامة جسور بين الميادين، منتهية احياناً الى منظومة فكرية واسعة . والفلسفة تذهب الى كل ما هو كلي وجامع وشامل وراء التمايزات والابعاد الخاصة بكل ميدان من الميادين .
        يميّـز الشمول هذا الفلسفة عن العلوم التي كانت في البداية جزءاً لا يتجزأ منها والتي أخذت، بعد ذلك، تدريجاً بالاستقلال عن المنظومة الأم. كل علم من العلوم حدد موضوعه، ومنهجاً خاصاً لمعالجة هذا الموضوع، فكانت ولادات العلوم[14] واستقلالها على الشكل الآتي[15] :
                الرياضيات (القرن السادس قبل الميلاد)
                الفيزياء السماوية او علم الفلك (القرن السادس قبل الميلاد)
                الفيزياء (القرن السابع عشر)
                الكيمياء (القرن الثامن عشر)
                علم الحياة (القرن التاسع عشر)
                علم الاجتماع (القرن التاسع عشر)
                علم النفس (القرن العشرون) .
        تتشارك الفلسفة والعلوم في العقلانية ، لكنهما تختلفان لجهة محدودية الموضوع في العلوم من جهة، ولجهة قبول كل علم من العلوم بمسلمات ضرورية لنجاح خطاه. هذا، وليس من باب الصدفة أن ولادة الفلسفة واكبت ولادة علمين وارتبطت بهما : الرياضيات وعلم الفلك. فالفيلسوف الأول، طاليس المِلطي (625-547 ق م) ، كان رياضياً وعالماً للفلك. وكأن قفزة العقل الاولى خارج السلطة الدينية والإطارين العملي والسياسي كانت بحاجة الى تلازم المسارات والى نموذج واحد وقاعدة مشتركة. كذلك ، وعبر التاريخ كله، شكلت ولادة علوم جديدة (فيزياء غاليلي (1564-1642)، على سبيل المثال) والتطورات المهمة داخل العلوم (الثورة الكوبرنيكية في علم الفلك ، نظرية الجاذبية النيوتونية في علم الفيزياء ...) حوافز مهمة لتجديد الفكر الفلسفي ومدّه بعناصر جديدة .
        وليست الفلسفة إناءً كبيراً يجمع ما تضمُه الاواني الصغيرة (أو على العكس من ذلك، إناء أُفْرِغ من محتواه نتيجة خروج الاواني الصغيرة منه)، بل هي، في جوهرها، صاحبة السؤال الاكثر انفتاحاً وشمولاً ، السؤال الذي لا يبقى خارجه شيء او مسألة او اطار، فتلتقي بذلك شمولية الفلسفة مع جذريتها : الاستقصاء العقلاني الأوسع هو ذاته الاستقصاء العقلاني الاكثر جذرية .


3- تعريف الفلسفة
        من كل ما سبق يبين ان ثمة تعريف واحد للفلسفة، وأن هذا التعريف ما زال صالحاً منذ أعطاها إياه ارسطو :
" الفلسفة علم الوجود بما هو موجود ."
        الفلسفة، بما هي علم، عقلية . والفلسفة، في سعيها لإدراك الوجود أو الكينونة، تسعى الى الأشمل والأكثر جذرية، فالوجود هو السمة المشتركة للكائنات الذهنية والعينية كلها. وما ثورات ديكارت وكنط ونيتشه التي تسعى الى استبدال الكينونة بالذات، إلا توسيعاً للسؤال الأرسطي وإعادة لتموضعه، واعطاء الذاتية دوراً خاصاً في اطار السؤال الأوسع[16].
يجسد ليبنتز LEIBNITZ  الشمول والجذرية هاتان بقوله: "تطرح الفلسفة سوءالين: لماذا ثمة شيء بدلاً من اللاشيء ؟ ولماذا هذا الشيء هو على هذا النحو وليس على نحو آخر ؟ " وهو بتجسيده هذا يُدخل إلى التساؤل الفلسفي  بعداً آخرا هو ال "لماذا" أي مسألة العلة أو السبب.
.
        وحتى لا تبدو الفلسفة مسعى إنسانياً مستقلاً عن الكينونة (الوجود)، أو قابلاً للهيمنة عليها، بالسؤال عن العلة الكافية أو بغيره، ننهي تعريفنا بهذه العبارة المعربة بتصرف عن الفيلسوف الالماني المعاصر هايدغر: الفلسفة رسالة تحمل إلى العبارة نداء الكينونة الآتي من الكائن .

                       
        كسارة، تشرين الثاني 1995               
       
       




[1] تشكل هذه المداخلة المحاضرة الأولى من محاضرات ثلاث ألقيت في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية- فرع البقاع. تدور المحاضرة الثانية عن ولادة الفلسفة والمحاضرة الثالثة عن انتقال الفلسفة من المستعمرات اليونانية إلى أثينا. ننشر المحاضرات تباعا.
[2] عتا(الرجل) يعتو، عُتوا، عُتِيّا و عِتِيا: استكبر وتجبّر وجاوز الحدّ ولم يطع. عتت الريح: كانت شديدة العصف ( ريح عاتية). كلُ مبالغٍ في كبر او فساد او كفر: عتا او عثا. العاتي ج عتاة.(من محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني).   ونورد هنا بعض الآيات القرآنية: "وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزِل علينا الملائكة او نرى ربنا لقد إستكبروا في أنفسهم وعَتوا عتواً كبيراً" (سورة الفرقان، 21)؛ "فوربك لنحشرنهم والشياطينَ ثم لنحضرنّهم حول جَهَنم جِثِيا. ثم لننزعنّ من كل شيعة أيهّمُ أشدّ على الرحمن عِتيا" (سورة مريم، 68-69)؛ ..."قرية عتت عن امر ربها ورسله" (سورة الطلاق، 8). هذا وكان المستشرق البريطاني برنارد لويس قد رأى أن العبارة القرآنية المقابلة للهبرس اليونانية هي "الطاغوت".
[3] حُكم على أناغساكوراس الكلزوميني (500-428 ق م) بالإعدام في أثينا (438 ق م )، وهو القادم إليها من إيونيا، فغادر إلى إحدى الجزر وبقي فيهاحتى الوفاة.
[4] بعد وفاة الإسكندر المقدوني, وخوفا من الحزب المعادي للمقدونيين في أثينا، غادر أرسطو الإسطاجيري (384-322 ق م) المدينة (323 ق م ) خصوصا أن أحد رجال الدين إتهمه بالكفر لكتابه نشيدا على شرف إنسان وهو ما لا يجوز إلا للآلهة.  
[5] يورد المعلم بطرس البستاني في محيط المحيط ما يأتي : "قيل العقل مأخوذ من عِقال البعير يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل". ويقول د. جميل صليـبا في "المعجم الفلسفي" :
 "العقل في اللغة هو الحجر والنهي، وقد سمي بذلك تشبيهاً بعقل الناقة ، لانه يمنع صاحبه من    العدول عن سواء السبيل كما يمنع العقالُ الناقةَ من الشرود".
[6] في المعجم الفلسفي الصادر عن "مجمع اللغة العربية" : "عقل Raison (F.) Reason (E.) : (1) بوجه عام : ما يُميَّـز به الحق من الباطل والصواب من الخطـأ.  (2) يطلق على أسمى صور العمليات الذهنية بعامة،  وعلى البرهنة والاستدلال بخاصة .  (3) يراد به ايضاً المبادىء اليقينيـة التي يلتقي عندها العقلاء جميعاً ، وهي   مبدأ عدم التناقض ، ومبدأ العلمية . (4) يطلق اللفظ الأجنبي ايضاً على ما يساوي السبب ، ومنه الاسباب  الكافية (Raisons suffisantes) عند ليـبنـتز ".
 [7] بطرس البستاني : محيط المحيط.
[8] ابن رشد : تفسير ما بعد الطبيعة.
[9] كتب الشاعر الالماني نوفاليس، على سبيل المثال، في تعبير شعريّ رائع : " إنها حمراء ، الوردة الصغيرة الزرقاء ".
 [10] Claude Lévi-Strauss: La structure des mythes in L’Anthropologie structurale , pp227-256, Plon, 1958.
[11] أوديبوس طورانوس تعني حرفيا أوديبوس الطاغية. والطاغية في عرف الإغريق هو الحاكم الذي لا شرعية له.
[12] "الآلهة الأرضية" ترتبط عند الإغريق بالأرض والعالم السفلي وتقابل "الآلهة السماوية".
[13] Maurice Merleau-Ponty: Les Philosophes célèbres, Mazenod, 1956,  repris in Signes, Gallimard,1960.
[14] نعدد هنا العلوم الوضعية الاساسية التي تدرس نظاماً عاماً من الظواهر وهي غير أ) التقنيات او الفنون المنبثقة   عن العلوم النظرية (مثل الطب او الهندسة الزراعية) ؛ ب) العلوم "الملموسة" التي تدرس طبقة معينة من الكائنات (علم المعادن ، علم النبات، علم الحيوان ...).
 [15] نستوحي هنا لائحة العلوم التي وضعها الفيلسوف الفرنسي وواضع المذهب الوضعي أوغست كومت (1798-1857) في القرن التاسع عشر ونضيف إليها علم النفس الذي أنكر كومت وجوده.Auguste Comte: Cours de philosophie positive, (les 2 premières leçons)   
[16] Alexandre Kojève: Essai d'une histoire raisonnée de la philosophie païenne. Paris, Gallimard, T. 1,. Les présocratiques, Heidegger : Kant et le problème de la métaphysique, (1929), Paris, Gallimard, 1953.

Friday 8 March 2013

LA RÉPUBLIQUE ISLAMIQUE D’IRAN ENTRE SECTARISME ET POLITIQUE IMPÉRIALE










Waddah Charara: Tawq al ‘amama (L’étau du turban, L’Etat khomeiniste iranien dans le conflit des doctrines et des communautés), Riad el-Rayyes books, 2013, 382pp.

          Pour tous ceux qu’interpelle la question du rapport entre l’islam et l’une de ses branches, le chiisme duodécimain, voire l’une des théories de ce dernier, Wilayat al faqih (la guidance du théologien-juriste) prônée par Khomeini, au foyer dogmatique et structurel de la République islamique d’Iran, on peut désormais recommander un exposé critique et magistral: les 4 premiers chapitres du dernier ouvrage de Waddah Charara dont on commencera par saluer le titre incisif. Le cadi andalou Ibn Hazm (994-1064) avait intitulé son essai sur l’amour, devenu un classique sur la sémiotique de ce sentiment, Tawq al hamâma fî al’ulfati wal  úllâf (le collier de la colombe sur l’amour et les amants). Il a suffi de retenir les deux premiers mots et d’y remplacer une seule lettre pour obtenir un autre titre et évoquer une réalité autrement oppressive Tawq al ‘amâma pour lequel on peut proposer « l’étau du turban »: il indique avec concision l’implacable autorité de religieux sectaires sur les régions, les communautés, les ressources et les individus.
L’ambiguïté « profonde et ample», selon les termes de Charara, loge déjà dans la formulation de la Constitution de 1979. Celle-ci institue la République islamique et affirme avoir été adoptée « à une majorité de 98,2%  de l’ensemble des personnes qui ont  le droit de vote ». Le premier « principe » (i.e. article)  parle du « règne du droit et de la justice du Coran », mais le deuxième, en énumérant les 6 fondements de  la République islamique,  énonce ainsi le 5ème : « l’imamat, sa direction permanente et son rôle fondamental dans la poursuite de la révolution de l’islam », ce qui relève clairement de la doctrine chiite. Le 12ème «principe » associe dans une même phrase l’islam et le fiqh ja‘farite et les déclare imprescriptibles en Iran : «La religion officielle de l’Iran est l’islam de confession ja‘farite duodécimain et ce principe est éternellement immuable. » Il affirme ensuite que « les autres  confessions islamiques, soit hanéfite, châfeîte, mâlekite, hanbalite  et zeydi» sont « entièrement respectées » et leurs adeptes « libres d’accomplir leurs rites confessionnels conformément à leur fiqh ». L’équivoque de la formulation constitutionnelle vient de ce que le chiisme imamite se voit attribué un double sens: celui de croyance générale et celui de rite et de jurisprudence. Donc, d’une part, la Constitution insinue sans l’affirmer clairement, qu’il revient à la doctrine duodécimaine de définir seule le dogme : l’islam et la « confession » ja‘farite  se trouvent ainsi réunis comme principe originel d’où sont issues, comme secondaires, les autres « confessions ». D’autre part, les sunnites sont distingués des autres « minorités religieuses » (« les seules reconnues » : les zoroastriens, les juifs et les chrétiens) et figurent dans l’islam au même rang que les chiites imamites. Dans les faits cependant, les prérogatives constitutionnelles des sunnites ne se distinguent en rien de celles des « minorités religieuses »  « qui, dans les limites de la Loi, sont libres d’accomplir leurs rites religieux et, quant au statut personnel et à l’éducation religieuse, agissent en conformité avec leur liturgie. » (13ème « principe »). On regrette, soit dit en passant, que dans un ouvrage d’une telle envergure, il est peu question de ces minorités.
Cette ambiguïté constitutionnelle est à la source de nombreuses doléances et revendications de sunnites iraniens contre leurs gouvernants accusés de sectarisme confessionnel : on leur refuse de construire des mosquées, on leur refuse de prier selon leurs rites dans celles prétendument islamiques, et quand on les invite à prier dans des lieux communs, plus d’un rite et plus d’un dogme séparent les 2 grandes communautés de l’Islam et empêchent la prière commune (pp 35-36).
L’ordre (au sens de distinction hiérarchique) chiite/sunnite se greffe dans l’Iran de la République islamique sur un autre, persan/nationalités diverses, au point de se confondre presque avec lui. Charara montre que cette identification n’est ni sans effets économiques (la distribution directe des ressources aboutit à un chômage permanent et à une inflation à 2 chiffres) ni sans histoire : elle a suivi un cheminement contemporain de « purification » de la société et de l’État visant tous les récalcitrants à la « ligne de l’imam », cheminement qui ne s’interrompt pas de la révolte multipolaire contre le Chah à la guerre d’Iraq en passant par l’occupation de l’ambassade américaine à Téhéran…Mais ce processus qui donne une large place aux moussaouis, descendants comme Khomeini du 7e imam et surtout la préséance aux habitants des 3 provinces « pures » par leur appartenance persane et chiite (Ispahan, Fars et Yazd : 10% de la population,  75% des postes clés mais aussi 70-80% des morts de la guerre d’Iraq) s’inscrit dans la longue durée : un Iran millénaire qui sert de « porte terrestre aux Indes, de barrage contre l’expansion russe en Asie centrale, de [pays] jumeau de la Turquie, de correspondant de l’Arabie et de contrôleur du « grand » bassin pétrolier », un Iran qui a trouvé dans la dynastie séfévide (1501-1722), « à l’origine sunnite, turque et soufie », un acteur pour se préserver de l’Empire ottoman et de l’islam sunnite, répandre le chiisme duodécimain et créer un vaste empire où  gouverneur et sujets se sont trouvés unis « dans une entité nationale et mystique. »
Face à la composante persane chiite, les autres nationalités de l’Iran actuel, à l’exception des béloutches très majoritairement sunnites, n’appartiennent pas à une seule communauté (les kurdes sont sunnites à 75%, les arabes chiites à 80%...), ce qui n’empêche nullement diverses persécutions allant de l’assassinat et du nettoyage ethnique à l’emprise culturelle brute. Mais mieux vaut, pour le dédale des détails et des étapes, lire l’ouvrage lui-même dont nous n’avons résumé qu’une partie puisqu’il est largement consacré aux politiques impériales de l’Iran du Liban au Yémen en passant par l’Iraq et la Palestine…
Réunissant principalement des articles de la dernière décennie au gré des événements et loin des foules, l’ouvrage de Waddah Charara, doté d’une préface inédite, se présente comme une somme structurée et passionnante.                  

Sunday 3 March 2013

STÉPHANE HESSEL ou l'âge contre le(s) temps










Stéphane Hessel n’a cessé de naître. La mort même de cet Allemand devenu Français et de ce berlinois reconverti en parisien , il y a quelques jours (le 27/2/2013), fut l’occasion d’une  renaissance tant elle donna lieu à des célébrations et des attaques. Pour le commun, il date d’un livre, un mince opuscule qu’il fit paraître à 93 ans Indignez-vous ! (2010). Ce fut comme un coup d’éclat  en plein marasme économique, au milieu de la banalisation du racisme et de la xénophobie, de l’apprentissage avancé de la population à la soumission aux réalités iniques, « des médias entre les mains des nantis ». L’ouvrage battît tous les records d’impression et vendit 4 millions d’exemplaires. Sur le plan éditorial, il n’allait pas seulement à contre courant, il renversait la tendance.
          L’appel portait. Le succès ne venait pas seulement de l’attente des lecteurs. Il  se comprenait surtout par cette voix qui liait son message à son destin, ce qu’il appelait son « socle » : né avec la révolution d’octobre (1917), Stéphane Hessel  ne cessait de renaître pour s’associer aux grands combats du siècle. Il fut des premiers à rejoindre la Résistance contre l’occupant (mars 1941), connut l’enfer de plusieurs camps nazis (1944), s’engagea pour « un ensemble de principes et de valeurs » après la Libération, fut dans les antichambres de la Déclaration universelle des Droits de l’homme (1948)  et de la décolonisation (1954)…S’il appelait à revenir aux origines de la Résistance, l’indignation, il se soutenait de son crédit historique. D’origine juive et interné à Buchenwald, il ne cessa de mettre en cause la politique criminelle d’Israël se rendant  plusieurs fois en Cisjordanie et à Gaza.
          Rendu célèbre par son ouvrage, Hessel devint omniprésent dans les meetings et les médias. Il rendait caduc le temps par l’âge et l’âge caduc par la culture à laquelle il faisait référence, la poésie qu’il ne cessait de réciter, l’universalité et la dignité humaines qui l’inspiraient  et l’énergie vitale où il puisait une force étonnante. 
           De mémoire d’homme, 96 ans ne furent si légers à porter et si pleins d’enseignements.