Thursday 2 April 2015

جودت فخرالدين شاعر التنزّه









السيدات والسادة[1]
       في ندوة[2] عُقدت في العام 1997 عن ديوانه الصادر يومها منارةٌ للغريق، دعيتُ إليها باسم صداقة جودت وإكبار الشعر، شدّدتُ من جهة على أمانة هذا الشعر وصدقه واستقامته، أمانته على اللغةِ وقواعدها، وعلى التراثِ وبحوره وتفعيلاته، وعلى الوجدان والذات، وتلمّس الصدق في التعبير دون الإفراط في الانفعال والتشبيه ومع الإحترام الخالص للمُعاشِ والبيان، ورفض اللفظية والرتابة عبارةً وصورةً وصياغة. وأشرتُ، من جهة أخرى، إلى ما يَعْرو هذا الشعر من هواجس السلبِ والضعفِ والخواء ف "الليالي اتلفتنا" و"أرواحنا مطفآت" في "زمن رخو" وفي سِنٍ (قصيدة " الأربعون" ) مضى فيها العمرُ وهو بعدُ لم يبتدئ! طبعاً لا هدايةَ إلا الشعر:
"كلماتٌ،
هي الديارُ،
هي الأرضُ لنا، والسماءُ والأشياءُ"
لكن هل يكونُ الشعرُ غيرَ " منارةٍ للغريق"؟

       منذ ذلك التاريخ، أقرأ قصائد جودت، جلّها أو بعضها، فأكتشف في كل نصّ جديد لا ما شفى جودت من "السأم" و"التهاوي" و"الذبول" و"الاضمحلال"، بل ما يشفيني وما يشفي كل معاصر في زمنٍ "ثقيل" شاع فيه "الخوفُ" و"الولولة". وليس الشفاءُ العبارةَ الصالحةَ أو الكافية أو الصائبة، بل هو الشعر في جوهره الإبداعي الذي يسمو بقائله وسامعه إلى ما لم يكن. يصالح الكلامَ مع الكَون، يفضّ بكارةَ كل منهما ويوجِدها ويحققها، يوائم الذات مع الذات، فيحرر ما رزحَ منها تحت العصر الكئيب واليأس والرتابة.
       هل نعلمُ ما الشعر؟
       هل للشعرِ ماهيةٌ وحَدّ؟
       أم ان كلَ شاعرٍ كبير يوّسعَ المساحات ويُطلِقَ الفضاءات ويمحو حدوداً مرسومة ويرسم دياراً جديدة؟
       " فلا السهلُ سهلٌ
       ولا الليلُ ليلٌ"[3]
       لكنهما، السهلُ والليل، لم يكونا برهةً ذاتيهما مثلما صارا عليه في قصيدة " شظايا" (أيلول 2006) مقاومين صامدين أليفين ماديين حسيين يلهوان  مع التين "أصلُ الحديقة، بهجتُها" ومع ضباب
 "أضاعَ وجوه القرى،
 وتقوّض بين حطام البيوت".
       ومن الأشياء إلى الذات ينتقل الشاعر في " لم تدعْني السماءُ وشأني"، مقيّما ما تمليه المعتقدات، رافضاً الخضوع، لاعبا لاهياً غير عابئ أو واهم، له حبور الشعر وإبتكار النفس واحترامها.
" أظلُّ كنجم ٍيحاذرُ مصرعَهُ بين هاويتيْن،
ويلمعُ في خوفِهِ،
كمصادفة ٍلامعهْ."

       وفي " قصيدة... أو أجمل"، وهي من أبدع الغزليات في اللغات كافة، يخرج جودت من فرديته وخشيته ووساوسه إلى وحدة المثنى والحب والفرح، محققاً الودادَ بأبهى حِلَلِه في رتابة الرحلة اليومية وبساطتها، رحلة الحياة المشتركة.





       كنتُ أرى في جودت فخر الدين شاعر التعالي[4]، وأرى اليوم أنه في تحولاته الحالية شاعر التَنَزُه، وفي التنزّه النزاهة  والتنزيه والنزهة، الترفعُ والأمانة والمجازفة ومتعة الترحال والتجوال في الطبيعةالفسيحة. حافظ جودت على الأمانة والصدق والاستقامة وأفاض عليها اللهوَ والحرية والفرح:

"لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرض ٍخطوْتُ بها،
نزّهتْني بكلِّ البلاد ِ، وعنها."


       فتحيةٌ من القلب لشاعر التنزّه
       وشكرا لكم!




[1] كلمة ألقيت بمناسبة تكريم الشاعر بدعوة من " المنبر الثقافي" في " جمعية التخصص والتوجيه العلمي" في 31/3/2015 في قاعة المحاضرات التابعة للجمعية، الرملة البيضاء. ألقى الشاعر قصيدتين بعد كلمة عباس بيضون وكلمتي.
[2] شرفة متعالية، عن منارة للغريق لجودت فخرالدين، كلمة ألقيت في ندوة عقدت في دار الندوة بمناسبة صدور الديوان بتاريخ28/2/1997.
[3] ليس بعد..، بيروت، 2006، ص 113.
[4] "شرفة متعالية" عنوان إحدى قصائد منارة للغريق.

No comments: