Tuesday 25 July 2017

فتى الإيمانين والرجاء الواحد: فيليب سالم





تقرأ فيليب سالم على صفحة النهار الأولى - واليوم مجموعاً في كتاب -  وتسمعه على مرّ السنوات وفي المناسبات كافة، في الانتصارات والهزائم، والأفراح والأتراح، فتأخذك فتوته وعنفوانها. لا يستكين، لا يهدأ، لا يملّ، لا يستسلم، لا يفقد القدرة في الدفاع والهجوم. يُشفي ولا يَشفى. متوثبٌ للإلمام بالجديد وللتحكّم بما طرأ ولمراجعة ما حصل طلباً لإدراك الفائدة منه والأذى فيه. لكنه ثابت على الإيمان أو قلّ على إيمانين اثنين: لبنان والمعرفة، يوآلف بينهما، يكاد أن يماهيما، لكنه لا يضيع[1]. فهو فتى[2] الثوابت وهو فتى التقدم غير الآبه بالسكون والرّضا. علّمه الطبُّ، مداواةً وبحثاً، ما العلمُ ولم ينسِه ما الوطن. كثرت المشاغل والهموم وبقيت وتيرة الشغف على ازدياد.
          بأي لبنان يؤمن؟ يبدأ بالضيعة والألفة والأهل ، بالشجر والتراب والضياء، ويسافر بالحكايات والأغنية والحنين إلى الحواضر والمهاجر، ويتعارك في كل آن  مع آلامه وأمراضه ولعناته،ما استُقدم منها وجاء من "لعبة الأمم" وما توّلد من ذاته ورسخ فيه. لبنان جوهر عالق في شوائبَ تلازمه، تتسلل إلى لبّه، تقبع في داخله. ولا يكون خلاصه إلا بالرؤية النيّرة والجهد الدؤوب واستجماع الإمكانات المتاحة وحسن استخدامها. "التعامل مع العالم بواقعية وذكاء وجرأة. هذا هو التحدّي التاريخي لإنقاذِك..."
          ما يميّز لبنان، ما يرسمه على خريطة العالم وشرق المتوسط بالأخص، ما يجعله أهلاً لكل حرب تخاض باسمه وفي سبيله هو تلك الحرية التي عاشها وصنعته والتي حافظت عليه وحافظ على نبضها في أحلك الظروف وأقسى المآسي وأسفل الدركات. الحرية غاية ووسيلة، وما تتيحه وترنو إليه هو الإبداع. وليس لبنان ذاته إلا حراً مبدعاً. هذه عبرة كِبارِه، وهذا ما وجده فيليب سالم عند جبران خليل جبران الأديب وشارل مالك الفيلسوف ومايكل دبغي الطبيب الجرّاح  وهذا ما استخلصه من الأعلام والأصدقاء وأراد أن يكون له وفياً كل الوفاء.
           ما يميّز المعرفة هو السبيل والمآل، هو المسعى الشاق للولوج إلى جواهر الأشياء وحلّ ألغازها. وما تولدّه هذه "الثقافة"[3]، هو الوحدة والانعتاق، هو الخروج من المِلَل والنِحَل المفتّتة للكيان الإنساني  والتحرر من الأوهام لرؤية الواقع رؤيةً صحيحةً صائبةً مفيدةً لخير البشر وحياة الأرض. العصبيّات الاجتماعية والفكرية، يجدها الأفراد والمجموعات في محيطهم  فيأنسون بها بحكم الفطرة والعادة، يستسلمون لها ويتحمّسون. يكرهون ويقتلون لأجلها. أمّا طريق العلم فغير معبّدة و شاقة وغير مضمونة النتائج. لذلك تحفّز الهممَ وتظهرأفضل ما في البشر وتولّد المحبة في الانسان. "الحب هو القوة التي تحوّل العملَ من شيء تقوم به ويبقى خارجك إلى شيء تقوم به ويصبح أنت". مقنِعٌ فيليب سالم في توجهه إلى أجيال الخريجين، إلى الشابات والشباب، لأنه يكلّمهم على أشياء عرفها وخبرها، وما زال يكابدها في مختبرات الطب والحياة؛ لأنه يوآلف في كلامه بين الحس الشعبي السليم والتطلع الأخلاقي المترفّع والشعائر الدينية المتسامية ومكتسبات الفلسفة، قديمُها المثمّنُ للسعادة وحديثُها المؤكِدّ على الواجب وعلى كلية الإنسان أينما حلّ وكان. وكل ذلك في صياغات بسيطة تستعير من صور الصلاة وتعابيرها وتصوراتها الألقَ والجمالَ ودفء التراث ورسوخه. " إنه كلما غُصتَ في المعرفة كلما اقتربتَ من الله، وكلما اقتربتَ من أخيك الانسان".


  *    *      *
          "جنون محبة"، هذا ما يصف به كاتبُنا تعلّقَه بلبنان وشغفه به. لكن ما يبدو لناظره عاطفةً جامحةً يُترجم في المقالات والخطب إلى لغة العقل، فنقع على وطن يسعى عاشقُه إلى لملمة ما يميّزه بل أفضل ما يميّزه ويحوّله إلى رؤية متماسكة متكاملة متسامية. ينهل فيليب سالم من ميشال شيحا، من شارل مالك، من كثيرين غيرهم أرادوا بناء الوطن الصغير على قاعدة فكرية تاريخية قانونية صلبة و يستنجد بيوحنا بولس الثاني ومحمد خاتمي ليؤكد على الرسالتين: "الرسالة" والدفاع عنها. ينتقل من عبارة "رسالة لبنان" إلى عبارة "معنى لبنان" الأكثر حداثة وحيادية والأقل التصاقا بأيديولوجية سادت قبل الحرب وظلّت موضوع أخذٍ وردّ. لكنه يبقى مدهشاً في قوة تصوره وعمق رؤياه وشمول عناصره وموضوعية نظرته وتنزّهها عن إيدولوجيات المكوّنات الطائفية.
 لن أختصر هنا ما سبكه المؤلف بإيجاز واناقة يصعب مجاراتهما، ف"المداميك" هنا بوضوحها وإشراقها تكون بالعيش المشترك والحرية  والديموقراطية و"العالمية" (أي تلاقي ثقافات العالم كلها في المساحة الصغيرة).
          يأخذك كلام فيليب سالم لأن صاحبه ملتزمٌ متنوّرٌ من خارج ميدان السياسة والصحافة والعلوم الإنسانية، ولأنه على الرغم من إقامته في الخارج ، متردداً على لبنان،  يعيش محنَ بلاده في كل آن لا بل في كل تفصيل، متابعاً مجريات العالم  والسياسة الأميريكية بدقة.
يأخذك كلامه لأنه  لا يمتّ بصلة إلى السجالات الطائفية اللبنانية ولغتها البشعة وطموحاتها الدنيئة ، ولأنه لا يتراجع عن  الثوابت الوطنية بل يؤكدها باستمرار.
 يأخذك لأنه مسبوك بروح العصر غير صادر من كهف أو من خارج الزمان، بل موقعٌ على إيقاع صديق العمر غسان تويني. يتعلم منه ويتحاورمعه في مسرحه الداخلي، مؤيداً أو معارضاً، ساعياً إلى الأهداف ذاتها.
يأخذك لأنه في كشفه  عن مزايا لبنان لا يسكت عن الهنات والسقطات ولا يتأقلم مع السائد من الأوضاع مسمّيا الذل والقهر والخنوع باسمائها داعياً إلى مواجهة الإرهاب و"التنين" يومَ كانت الجمهورية في القعر.  "هذا الإرهاب هو فرضُ الفكرِ الواحدِ، فكر الحاكم الواحد، على المحكومين جميعاً...فإما الطاعة وإما السجن."[4] ولأنه لا يتمسّك بالرموز حين تخفى الوقائع[5]، ولا يكتفي بالقليل المتيسر بل يطلب ، على سبيل المثال ، رئيساً للجمهورية " بحجم مانديلا وحجم لبنان." [6]  
 يأخذك لأن كلامه عقلاني في صميمه يدعو إلى الحوار ويقبله، ويدرك ما للعقلانية من متطلبات. ف"العقلانية الأداتية"Zweckrationalität, rationnalité instrumentale، كما يسمّيها ماكس فيبر، تستلزم الوسائل الصالحة لبلوغ الغاية المنشودة. والأمر في السياسة حاسم. لا يكون إصلاحُ لبنان وخروجُه من مستنقعات التبعية والفساد والطائفية...إلا بسيادته على ذاته: "اللبنانيون يعرفون جيدا أن الحاكم، إن لم يكن سيّد القرارلا يكون سيد نفسه ولا سيّد الأرض"[7]. ولا يكون إلا بضبط السلاح وإخضاعه لقرار الشرعية وصولا إلى "حصرية السلاح في يد الدولة وحدها"[8]  . وكذلك لا يكون إلا بفصل الدين عن الدولة وبناء "الدولة المدنية"[9]. ولا يكون في نهاية المطاف إلا بأفضل العلاقات مع الدول العربية المجاورة، وبالخروج من المحاور الإقليمية والدولية المصادِرة لإرادتنا المستنزِفة لطاقاتنا،  وبتحيّن الفرص السانحة للاستفادة من أي مستجدّ  وترقّب الأمور بالجدية اللازمة والسرعة المطلوبة والاعتماد الدائم على الشرعية الدولية.
يأخذك الكلام لأنه، في تشديده على "نهائية" لبنان وطناً "لجميع أبنائه" كما ورد في اتفاقية الطائف ومقدمة الدستور، وعلى استقلاله ورفض ذوبانه في كيان آخر وفقدان هويته وتميّزه،  لا يأنس عبارة "الوجه العربي" ويؤكد  "أن لبنان بلدٌ عربي من رأسه إلى أخمص قدميه". وتُظهر الصفحات المخصصة للعرب، في أميركا وفي ديارهم، مدى تبنّي فيليب سالم لقضاياهم واحتضانِه لانتفاضاتهم وثوراتهم ودفاعِه عنهم. وما محاسبته القاسية لهم أحيانا إلا من باب الحرصِ على مصالحهم ومشاركتِهم تطلّعاتهم والآمال. ومقالته عن "راهب العروبة" الصديق كلوفيس مقصود خير شاهد على عروبة عميقة في اللبنانية العتيقة.

                            *       *       *
          تقرأ كتاب فيليب سالم رسالة لبنان ومعناه،فتخالفه في عبارات قليلة مثل "انصهار"[10] التي تغّلب النارَ والمعدن. ولا تتذمر من بعض التكرار لأنه تأكيد على الثوابت، ومسعى محمود لتنويع الصياغات على مدى الأعوام واختلاف الظروف. تجد نفسك أمام كتاب تاريخ يعيدك إلى عقودٍ مرّت وفرصٍ فاتت وأحلامٍ لم تتحقق ومهامّ لم تنجز. لكنه يبقى أولا وأخيرا كتاب الأمل المضيء، كتاب السبل المؤدية إلى بلوغ السيادة والإصلاح والمعرفة والسمو بالذات. ويسرّك أن خواتمه تتوجه إلى الشباب والخريجين لاستخلاص الدروس واستنهاض الطاقات والإشارة إلى أدب الحياة بل إلى آدابها. وهو بهذا كتاب تربية وطنية وأممية.
          كذلك فإن هذا الكتاب هو كتاب الوفاء، الوفاء لرفاق الدرب والأصدقاء الذين رحلوا وبقيت أرواحهم حاضرة.
          مقالات فيليب سالم وخُطبه كتاب الرجاء الواحد: الإنسان المتصالح مع أخيه وذاته والمتمتّع بحقوقه كلها  وعلى رأسها الحق في الصحة والحق في الحرية والحق في الابداع.

زحلة في 8 حزيران 2016



[1]  عن فيليب سالم راجع مهى سمارة: فيليب سالم الثّائر والعالم والإنساني، دار النهار-دار الساقي، بيروت 2013 وفيليب سالم بأقلامهم، إعداد أسعد الخوري، بيروت، 2014. 
[2]  قال القتيبي: ليس الفَتى بمعنى الشابّ والحَدَث إنما هو بمعنى الكامل الجَزْل من الرجال. ورَجُل جَزْل: ثَقِفٌ عاقل أَصيل الرَّأْي. الجوهري:الفَتى السخيّ الكريم. (عن لسان العرب).
[3]  العبارة لفيليب سالم التي يميّز بين "ثقافة المعرفة"  و"ثقافة التطرف الديني والأيديولوجي".
[4]  المؤتمر والتنين (18-10-2002).
[5]  تعالوا نعلنه يوم حداد [عيد الاستقلال] (24-11-2003).

[6]  افتتاحية 20/3/2014.
[7] لبنان الرسالة وماذا تبقى من الرسالة؟ (24-7-2001)

[8]  الإستراتيجية الدفاعية هي استراتيجية الدفاع عن السلام  (15-4-2010)
[9] الإرشاد الرسولي و"المسألة المشرقية"  (16-9-2012)
[10]  في دعوته إلى المواطنة اللبنانية غير الطائفية. 

No comments: